فلسطين

من رماد الحرب إلى أمل الحياة: حين يولد الأمل من قلب الألم

من ذر الرماد وتحت وطأة الدمار تنبت معانِ جديدة للحياة توقد بداخلنا شعلة أمل لا تنطفيء.. إليكم حكاية قلب لم تجرفه الحرب

future أطفال غزة يقتنصون الفرح فوق ركام المنازل

في قلب الحرب حيث تتصادم الجدران وتتشقق الأرض تحت وطأة الدمار، تجد نفسك تبحث عن معنى للحياة وسط كل هذا الخراب. عندما تتحول الأرض إلى رماد، والعواطف إلى صمت، لا يبقى لديك شيء سوى الذكريات التي تحاول أن تتمسك بها قبل أن تغرق في بحر الفقد. الحرب تعلمنا أن الحياة قد تكون قاسية إلى أبعد حد، لكننا لا نتوقف، حتى لو كان كل شيء حولنا ينهار. نحن نتحمل في صمت، نبكي خلف الأقنعة، ونمضي قدمًا على الرغم من أن الأقدار قد رسمت لنا مسارات قاسية. في تلك اللحظات، لا يسعك إلا أن تسأل نفسك: هل يمكن للألم أن يعيد تشكيلنا؟ هل يمكن للفقد أن يكون بداية جديدة؟ 

لقد تغيرت حياتي بشكل مفاجئ وبطريقة لا يمكنني وصفها، لم أكن اتوقع أن تجرفني الحرب بهذه السرعة، وأن تتحول حياتي من الهدوء إلى الجحيم في لحظة واحدة. في نهاية عام 2023، بدأت الحرب تضرب غزة بكل قوتها، وكأنها كانت تستهدف كل شيء: المنازل، الأحلام، والقلوب. وكأن ما مررنا به من آلام لم يكن كافيًا، فها هي الحرب تعود لتأخذ منا كل شيء.

خلال نزوحنا من مكان إلى آخر، كنت أرى مشاهد لن تُمحى من ذاكرتي أبدًا. العائلات التي كانت تترك وراءها كل شيء في رحلة بحث عن مكان آمن. ومع مرور الأيام اكتشفت أن النزوح لا يعني فقط فقدان المكان، بل هو فقدان للهوية، للمستقبل، للأحلام التي كانت تُبنى في كل زاوية من بيوتنا. كاد المكان الذي انتقلنا إليه أن يكون أشبه بمساحة ضيقة لكن رغم القسوة تعلمت أن المكان ليس هو ما يحدد هويتنا، بل الإيمان والعزيمة في القلب.

حين فقدنا منزلنا بسبب القصف، شعرت وكأن جزءًا مني قد تلاشى، لكن في تلك اللحظة أدركت أن الحرب لا تمنحك خيارًا سوى أن تكون قويًا. بدأت أرى الحياة من منظور مختلف؛ أصبحت أقدر الأشياء الصغيرة التي كنت أعتبرها بديهية: كوب الشاي الدافئ، جلسة عائلية، وحتى لحظات الصمت بعيدًا عن أصوات الانفجارات.

قبل الحرب، كنت أعتقد أن الحياة تسير في مسار ثابت، وأن كل شيء سيبقى كما هو. لكن بعد أن فقدت منزلي وأحبائي، بدأت أرى أن الحياة لا تتوقف عند نقطة معينة. من خلال ما فقدت، تعلمت كيف يمكن للتغيير أن يصبح جزءًا من حياتنا، وأن الخسارة ليست النهاية، بل بداية لمرحلة جديدة من النمو.

اليوم وأنا أكتب هذه الكلمات وسط زخات الرصاص، ما زلت أشعر بثقل الفقد. لقد فقدت أبي في عام 2021 وأختي في عام 2023، وفي عام 2024 فقدت أخي حيث ارتقى شهيدًا في هذه الحرب، وفقدت منزلي، وفقدت شعوري بالأمان. لكنني لم أفقد إرادتي للحياة. لم أعد أرى الفقد كتهديد، بل كجزء من عملية التغيير التي لا مفر منها، وكلما تعمقت في الفقد، كلما أصبحت أكثر قوة. لأن الفقد لا يقتصر على ما تخسره، بل على ما تكتشفه في نفسك بعد ان تفقد كل شيء. 

ورغم المعاناة الشخصية التي مررت بها، بدأت أدرك أنني لست وحدي في هذا الألم. حرب غزة لم تقتصر على حياتي فقط، بل كانت معاناة مشتركة لكل من يعيش هنا. الجميع فقد شيئًا: بعضهم فقد أحباءه، وبعضهم فقد منزله، وآخرون فقدوا أمنهم وحياتهم الطبيعية. وكل واحد منا يحمل قصة مليئة بالدموع والخوف، لكننا جميعًا نتشارك الأمل في أن نعيد بناء حياتنا من جديد.

في هذه الحرب التقيت بالكثير من العائلات التي فقدت -كما فقدت- كل شيء. وكلما تحدثت مع شخص، كنت أكتشف أن الألم الذي أحياه ليس خاصًا بي، بل هو ألم يشترك فيه الجميع. الأطفال الذين كانوا يلعبون في الشوارع أصبحوا الآن بلا ألعاب، والنساء اللواتي كنّ يعتنين بمنازلهن باتت حياتهن مليئة بالحطام. هؤلاء الأشخاص لا يزالون يحتفظون بالأمل رغم كل شيء، وهذا الامل هو ما يعطينا القوة للاستمرار.

في وسط هذه المعاناة، لم يكن هناك مجال للتوقف أو الاستسلام. بينما نعيش هذا الوضع، كانت النساء في غزة يواجهن تحديات لا تقل في شدتها عن فقدان أحبائهن. كنّ في كل يوم يتعاملن مع أعباء الحياة، في ظل انقطاع الكهرباء والماء، وفي ظل تدمير المنازل والطرقات، ليظل الهم الأكبر في ذهنهن هو بقاء الأطفال على قيد الحياة، وتوفير الطعام والملجأ لهم.

نساء غزة لسن مجرد ضحايا للحرب، بل هنّ أيقونات للصمود، تجد المرأة التي فقدت منزلها تعمل بلا كلل لإعادة بناء حياتها، تجد الطالبة التي فقدت أصدقاءها تقف لتكمل تعليمها، تجد الأم التي فقدت أطفالها تتحول إلى صوت للمطالبة بحقوق الآخرين.

هنّ من يزرعن الأمل في أرض يملؤها الرماد، ويؤكدن أن الحرب قد تسلبنا أشياء كثيرة، لكنها لا تستطيع أن تسلبنا إرادتنا.

في مواجهة كل هذه المآسي، كان الإيمان بالله هو مصدر القوة الوحيد. كنت أردد في نفسي قول الله تعالى «فَإنِّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا»(الشرح:6). كنت أؤمن أن هذه المحنة ليست إلا اختبارًا، وأن الفرج قريب، مهما بدا بعيدًا.

الصلاة كانت ملاذي. كنت أجلس في زاوية الغرفة وأرفع يدي بالدعاء، أطلب من الله أن يحمي أحبائي، وأن يمنحني القوة لتحمل ما لا أستطيع احتماله. في تلك اللحظات، كنت أشعر بالسكينة، حتى لو كان العالم من حولي ينهار.

بعد كل ما مررت به، أصبح لدي يقين أن الحرب لا تقتصر على المعارك التي تدور بين الجيوش أو الأسلحة التي تدمر الأرض. بل هي معركة داخلية لا تنتهي، معركة مع النفس، مع الذكريات، مع الألم الذي يرافقنا في كل لحظة، ومع الفقد الذي يظل في القلب كجراح لا تندمل. ربما لا أستطيع أن أسترجع ما فقدته، ولا أن أعيد الزمن إلى الوراء، لكنني تعلمت درسًا عميقًا: الحياة لا تنتظر أحدًا، مهما كان الثمن. تعلمت أن لا أسمح لأي ألم أن يحدد مصيري، وأن أعيش كل لحظة بما فيها من أوجاع.

أصبحت أرى أن كل لحظة نعيشها، مهما كانت بسيطة، هي فرصة للتشبث بالحياة. أصبحت أقدّر كوب الشاي في الصباح، ضحكة طفل وسط الدمار، وحتى لحظات الصمت التي كنت أهرب منها يومًا. هذه التفاصيل الصغيرة أصبحت أعظم من أي شيء كنت أظنه مهمًا في الماضي.

اليوم، رغم الجروح العميقة التي تركتها الحرب في روحي، أستطيع القول أنني ما زلت هنا. أستطيع أن أبتسم رغم الحزن الذي يملأ عيني، وأن أعيش رغم الفراغ الذي تركه رحيل الأحباء. لم أعد أرى الألم كعائق، بل كجزء من نفسي، جزء من هذه الرحلة التي لا تنتهي. في كل مرة كان يشتد الألم، كنت أجد في داخلي عزيمة أكبر للاستمرار، وكأن الألم قد أصبح وقودًا لإرادتي.

لا شيء يعود كما كان، ولا يمكن للزمن أن يغير ما حدث. لكن في داخلي، هناك شعلة أمل لا تنطفئ، شعلة ستبقى مضيئة حتى في أحلك اللحظات. ربما تكون حياتي قد تغيرت إلى الأبد، ولكنني اخترت أن أعيشها بكل قوتي، لأنني أدركت أن الحياة رغم كل ما فيها من آلام، هي نعمة تستحق أن نقدرها وأن نستمر في المضي قدمًا لأجلها.

# غزة # طوفان الأقصى # حرب غزة

شِعرُ المآسي: لسنا محتوى لعين لتشاهدوه
ما وراء المقاطعة: سيكولوجية النزعة الاستهلاكية
غزة: هذا الموت يأتيكم برعاية أسلحة الذكاء الاصطناعي

فلسطين